الفراغ السياسي- تشخيص أمراض العرب السياسية وأثمان تجاهله.

يشكل استعراض وتحليل قضية "الفراغ السياسي" ضرورة مُلِحّة لفهم وتشخيص بعض العلل والأمراض السياسية في عالمنا العربي المعاصر. هذه الظاهرة ليست حِكراً على منطقتنا، بل تتفشى في أنحاء أخرى من العالم التي تعاني من اختلال موازين القوى. الفراغ السياسي يظهر في الدول التي لم تستطع تحقيق الاكتفاء الذاتي في قدراتها المؤسسية والسياسية، وذلك بسبب الاستبداد والفساد، وسائر العوامل التي تُسهم في خلق "خلل هيكلي" يمتد تأثيره من السياسة إلى الاقتصاد، والأوضاع الاجتماعية والثقافية، وحتى إلى الحالة النفسية للأفراد وعقلهم الجمعي وذائقتهم العامة.
أثمان فادحة
إنّ أولئك الذين يُوصَمون بالفراغ السياسي، عليهم المسارعة إلى ملء هذا الفراغ بدلًا من إنكاره وتجاهله. فالفراغ المستجد أو المزمن لا ينبغي التغاضي عنه، سواء كان ذلك في الخطاب الموجّه للناس بهدف إعلامهم أو إقناعهم أو استمالتهم، أو حتى التلاعب بعقولهم وعواطفهم. وينسحب الأمر على الممارسات والتصرفات والسلوكيات المرتبطة بتشكيل الخريطة السياسية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وكذلك أساليب توزيع السلطة والنفوذ في المجتمع.
يرى العديد من المراقبين أن تحديد المستوى الأمثل أو المكتمل في السياسة هو ما يجب أن يشغل النخبة السياسية وعامة الناس، بدلًا من إضاعة الوقت في تقييم حجم الفراغ ونطاقه. هؤلاء قد لا يهتمون بالنظر إلى الفراغ من الأساس، إما عن جهل أو تسرع أو غفلة، أو بتواطؤ من أصحاب المصالح الضيقة والآنية، حيث أن تقدير الفراغ يكشف، أو يفضح، أنظمة الحكم والحقب التاريخية، ويعرّي الكثير من الممارسات الخاطئة.
لذلك، فإن أصحاب هذا الاتجاه يركزون دائمًا على ما يسمونه: "الجزء الممتلئ من الكأس"؛ لتبرير الشرعية السياسية أو تعزيزها، عن طريق الترويج لها بين الناس. ومن مصلحتهم إخفاء أو التعتيم على أي حديث عن الفراغ، لأن ذلك يفضح ادعاءات الكمال أو "الإنجاز المذهل" أو "الولاء المطلق للمصلحة العليا".
ولكن التستر على أي فراغ في السلطة السياسية يؤدي حتمًا إلى تفاقمه. فالثغرات المتروكة في التفكير والأداء السياسي غالبًا ما تقود إلى كوارث يصحو الناس عليها، ويعقبها ندم شديد. وكلما تأخر أصحاب القرار في معالجة الفراغ أو تداركه، كلما كان الثمن أكبر، والقدرة على التعويض والخروج من الأزمة أضعف.
تشريح وتوضيح
في المقابل، يعتقد البعض الآخر، بتسرع وسطحية، أن بإمكانهم التحكم في إدراك الناس لمفاهيم الامتلاء والفراغ، والنور والظلام، والنفع والضرر، واليقظة والغفلة، والتوضيح والتعمية. يظنون أنهم قادرون على وضع من يشاءون في دائرة الضوء، واستبعاد أهل الخبرة والمعرفة، أو تبرير أي تقصير أو نقص في السلوك السياسي باعتباره الأفضل. لكن هذا محض وهم، فالناس يعون ويدركون، ويسخرون ويتجاهلون، ويسعون نحو الامتلاء الحقيقي، حتى وإن طال هذا المسعى أو تأخر أو تعثر.
إن المثال السابق يوضح أن قضية "الفراغ السياسي" لا تقتصر على القضايا الكبرى التي تهم الدول، بل تمتد لتشمل الأفراد في سياق الصراع السياسي أو التنافس على المكانة والنفوذ. وهذا لا يقلل من أهمية الموضوع، على الرغم من أن معظم الأبحاث والدراسات ركزت عليه في شكله الأكبر المتعلق بالدول والنظم الإقليمية والدولية. فالإحساس بالفراغ يبدأ عند الفرد وينتهي بالجماعة، ثم بالكتلة السياسية، ليس كوحدة جغرافية صماء، بل كوحدة تتخللها المشاعر والأحاسيس والتخيلات والآمال والأوهام التي تنتاب الفرد، بغض النظر عن الظروف والسياقات الاجتماعية والسياسية القائمة.
إن تشريح وتوضيح "الفراغ السياسي" يفتح آفاقًا جديدة في الدراسات السياسية العربية لفهم العديد من المسارات المرتبطة بقضايا الديمقراطية وما يشوبها من نواقص، ومأزق الأمن الذي يشكل تحديًا كبيرًا للنظام الإقليمي العربي لأسباب عديدة وبأشكال متنوعة، تتوزع وتنتشر ثم تنتظم من المحيط إلى الخليج. وكذلك المسائل المتعلقة بالشرعية السياسية التي تثار حولها تساؤلات لا يمكن تجاهلها في العديد من البلدان، والخطاب الإعلامي المطروح الذي يسعى القائمون عليه إلى تسويقه، وإدراك الجمهور أو الرأي العام لموقف السلطة وانحيازاتها وتوجهاتها وتصرفاتها وتصوراتها عن الوضع الراهن والمستقبل.
فكر وممارسة
لذلك، يجب أن تتجاوز دراسة الفراغ السياسي التصورات المألوفة التي تم رصدها ووصفها وتحليلها في التاريخ السياسي والعلاقات الدولية والسياسة الخارجية. بل يجب أن تكون مدخلًا معتبرًا لتحليل الكثير من التصورات والقرارات السياسية، أو تمثل مقاربة مهمة لفهم ما يجول في أذهان المنشغلين بالعمل السياسي، بدءًا من المواطن العادي وانتهاء بصانع القرار في أعلى قمة السلطة.
إن التعامل مع السياسة على أنها "امتلاء" أو الجزء المرئي والملموس والمحسوس المتعارف عليه، هو أمر يفتقر إلى الحصافة والفعالية. فالسياسة، فكرًا وممارسة، لها جوانب واسعة وعميقة مرتبطة بالرموز والخيال، والأماني والأوهام، والكثير مما لا يمكن تحديده بدقة. وهذا يتناقض مع ما يذهب إليه بعض أساتذة هذا العلم الذين يسعون إلى إغراقها في بحر من المعادلات الرياضية والأشكال الإحصائية، بدءًا من المتوسط الحسابي البسيط وانتهاء بمعاملات الارتباط، وما بينهما من أرقام وحسابات، في محاولة لضبط العلوم السياسية كعلم إنساني، وتقريبها من العلوم البحتة، وفقًا للدراسات الميدانية أو التجريبية.
إن دراسة الفراغ ليست انتقاصًا من الحقيقة الموجودة، بل إضافة إليها. فحين نقول إن وعي الناس ينقص بنسبة معينة، فهذا يعني أننا نريد تحديد نسبة الوعي أو مقداره. فبضدها تتميز الأشياء، وإذا حددنا الناقص نعرف البقية، أو نصل إلى المكتمل أو نفهمه على الأقل. فما بالنا لو كان الفارغ ليس بفارغ حقًا، وإنما نحن ندركه هكذا، كما تؤكد لنا الفيزياء، التي هي الشاهد الأكبر على ذلك، أكثر من الفلسفة والعلوم السياسية التي تتحدث عن هذا الأمر من باب المجاز.
